القيم والأخلاق- محركات أساسية للسلوك السياسي، ليست مجرد مصالح

المؤلف: طلال صالح بنان08.14.2025
القيم والأخلاق- محركات أساسية للسلوك السياسي، ليست مجرد مصالح

من الأوهام المنتشرة في ميدان العمل السياسي، سواء على صعيد الأفراد أو الدول، الادعاء الخاطئ بأن الدافع الجوهري للسلوك السياسي يكمن في بُعد المصلحة فحسب. وتبعاً لهذا التصور القاصر، يزعمون أنه لا يمكن فهم هذا السلوك من منطلق دوافع قيمية يصعب تقديرها كمياً، أو تحويلها إلى مكاسب مادية قابلة للحسابات الرياضية الدقيقة. وفي الغالب، يجد أولئك الذين يختزلون العمل السياسي في الحسابات الكمية، متجاهلين الدوافع القيمية العميقة، ضالتهم المضللة في كتابات المفكر الإيطالي الشهير نيقولا ميكيافيلي (1469-1527). إذ يزعمون زوراً بأنه استبعد الأخلاق والقيم بشكل قاطع من تحليلاته للسلوك السياسي، ومن النصائح والإرشادات التي قدمها للأمراء والحكام!

والحقيقة أن هذا التبسيط المنهجي المفرط، الذي يربط العمل السياسي بالمصالح الفردية أو الآنية، دون أدنى اعتبار للقيم والمبادئ، يُعد من أكبر عيوب المدرسة السلوكية. هذه المدرسة سعت بأسلوب قاصر ومعيب إلى إقصاء المتغيرات القيمية من تفسير الظواهر السياسية، واختزالها في مجرد حركات سلوكية يمكن رصدها وقياسها. وكان هدفهم المعلن هو تطوير تفسير "واقعي" للسلوك السياسي، قابل للقياس الكمي، وبالتالي يمكن التنبؤ بحركته المستقبلية "بدقة وموضوعية"، على غرار ما يحدث في العلوم الطبيعية.

لقد بذل أتباع المدرسة السلوكية جهوداً مضنية في استحداث أدوات بحث كمية وتجريبية. ولكنهم في خضم ذلك، انحرفوا عن المسار الصحيح لدراسة الظواهر السياسية، وأهدروا طاقاتهم ومواردهم في الترويج لمنهجهم "العلمي" وتطوير أدواته القياسية، بدلاً من التركيز على دراسة القضايا السياسية الجوهرية. وفي نهاية المطاف، توصلوا إلى قناعة راسخة مفادها أنه لا يمكن تفسير الظواهر السياسية بالاعتماد فقط على دراسة السلوك الظاهري، دون الغوص في الدوافع الحقيقية الكامنة وراءه، والتي تتجلى في متغيرات قيمية لا يمكن إخضاعها للقياس الكمي. والمثير للسخرية أن من أوقد شرارة ما أُطلق عليه "الثورة السلوكية" في العلوم الاجتماعية، وخاصة علم السياسة، هو العالم السياسي البارز ديفيد إيستون (1917-2014). ولكن المفارقة أنه هو نفسه من قاد حملة "الثورة المضادة" على المدرسة السلوكية، وأرسى دعائم ما عُرف بمرحلة "ما بعد المدرسة السلوكية"!

إن الإغريق القدماء، الذين يعود إليهم الفضل في دراسة الظواهر السياسية بمنهج علمي يضاهي المنهج المستخدم في دراسة الظواهر الطبيعية، لم يكتفوا بدراسة السلوك السياسي الظاهري. بل أولوا اهتماماً كبيراً للدوافع الكامنة وراءه، ولآثاره ونتائجه المترتبة عليه. لقد جمع منهج الإغريق القدماء بين السياسة والأخلاق، وأكدوا أنه من المستحيل دراسة الظواهر السياسية بالتركيز على السلوك السياسي المجرد، بل يجب دراسة الدوافع الخفية التي لا يمكن قياسها كمياً، من أجل تكوين صورة شاملة وحقيقية للظواهر السياسية. ومن ثم، يمكن معالجة القضايا الكبرى في علم السياسة، مثل العدالة والمساواة والحقوق والحريات. وكذلك المقارنة بين الأنظمة السياسية المختلفة، بناءً على القيم التي تتبناها وتوجه حركة رموزها ومؤسساتها، سواء كانت أنظمة ديمقراطية أو مستبدة، فاضلة أو فاسدة، وما إلى ذلك.

لذا، نجد أن الإغريق القدماء ركزوا بشكل كبير على دراسة القيم الأخلاقية، وأضفوا عليها أبعاداً سياسية، وجعلوها غاية إنسانية وأخلاقية للسلوك السياسي. فقد اهتموا بقيم مثل العدالة والفضيلة والسعادة. بل إن الإغريق، بمنهجهم النقدي والوصفي والإصلاحي، طوروا مفاهيم ومصطلحات سياسية ما زال علماء السياسة والباحثون يستخدمونها ويهتمون بها حتى يومنا هذا، مثل النخبة أو الطبقة الحاكمة، والتعددية، والمشاركة السياسية، والطبقة الوسطى. والأكثر من ذلك، أن الإغريق القدماء سبقوا علماء السياسة المعاصرين في الاهتمام بالحركة العنيفة للظواهر السياسية، فكانت لهم نظرياتهم الخاصة في حركة الصراع السياسي على السلطة، وتصميم دورات العهود المتعاقبة، وتفسيراتهم لظواهر الثورات وأسباب الحروب، وغيرها.

وبناءً على ما تقدم، فإنه من غير الممكن على الإطلاق فهم السلوك السياسي فهماً عميقاً وشاملاً، دون الإلمام بالدوافع القيمية الخفية التي تحركه، ودون الاهتمام باستشراف نتائجه المترتبة عليه، بغض النظر عن خلفيته القيمية والأخلاقية. إن التركيز على بُعد المصلحة وحده، لا يكفي، من الناحية المنهجية، لتقديم صورة حقيقية وكاملة وشاملة للسلوك السياسي، سواء على مستوى الأفراد أو حركة المجتمعات، وحتى مواقف وسياسات الدول.

إذن، ما يحرك السلوك السياسي، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وصولاً إلى سلوك الدول في علاقاتها الخارجية، هو في حقيقة الأمر نظام القيم الذي تتبناه النخب الحاكمة. قد يستند هذا النظام القيمي إلى تراث أخلاقي أو ديني أو ثقافي يعكس توجهًا عامًا في داخل مجتمعاتها، أو قد يمثل تحولاً أخلاقياً وثقافياً تسعى النخب الحاكمة إلى فرضه على بيئتها السياسية والاجتماعية المحلية، في ما يشبه الثورة على الموروثات الثقافية والأخلاقية التاريخية المتجذرة في ضمير هذه المجتمعات.

وحتى في حالة استخدام بُعد المصلحة لتفسير سلوك الدول على الساحتين الإقليمية والدولية، فإن ذلك لا يمكن أن يظهر في صورة فجة وصارخة، وكأنه خروج سافر عن نظام القيم السائد في مجتمعاتها، أو تحدٍ سافر للمبادئ الدستورية والنظم القانونية والاعتبارات الأخلاقية المرعية. على سبيل المثال، لا يمكن للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بل ودولٌ كثيرة أخرى، حتى بعض المنظمات الإقليمية، أن تؤيد علنًا ظاهرة الانقلابات العسكرية، خاصةً إذا ما وقعت ضد حكومات منتخبة ديمقراطيًا، رغم أن تفسيرها للمصلحة القومية قد يقتضي دعم، بل حتى التدبير لوقوع تلك الانقلابات. كما أن الكثير من الدول تحاول جاهدة أن تغطي أي سلوك عدواني أو لا أخلاقي في سياستها الخارجية، وتعزوه إلى مبررات تبدو لحكوماتها والرأي العام مشروعة وأخلاقية.

بل إنه حتى في داخل الدولة نفسها، يختلف السلوك السياسي للحكومات، سواء على مستوى السياسات الداخلية أو السياسة الخارجية، تبعاً لنظام القيم الذي تعتنقه النخب الحاكمة. فالسياسات الاقتصادية التي تسود حقبة من الحقب، على سبيل المثال، تعتمد أساساً على الأيديولوجية الاقتصادية التي تتبناها النخب، سواء كانت تؤمن بالليبرالية الاقتصادية أو الاشتراكية. وفي حقبة الحرب الباردة، خضع العالم لصراع أممي طاحن تحكمه قيم أيديولوجية متصارعة، كاد أن يمحو كل أشكال الحياة على وجه الأرض.

وحتى يتسنى تفسير السلوك السياسي، على كافة المستويات، بصورة أكثر دقة وعمقًا، لا يكفي التركيز على حركته الظاهرية، بل يجب محاولة سبر غوره وكشف دوافعه الخفية، واستشراف مآلاته ونتائجه المستقبلية. فالقيم الأخلاقية، بغض النظر عن الجدل الدائر حول خيريتها من عدمها، هي متغير أساسي لا غنى عنه لتفسير الظواهر السياسية على اختلاف أنواعها ومستوياتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة